هام جدا

لم أنحت لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب الجزء الثاني

لم أنحت لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب الجزء الثاني  

رواية بعنوان نساء في الطريق للكاتب علي أفيلال الجزء الثاني لم أنحت لك بعد فتمثال الحب في ساحة القلب
نساء في الطريق علي أفيلال




سيدتي... أريدك لأنسى على صدرك ما ينزف به قلبي الجريح... أنسى؟! ما هذا الذي أريد أن أنساه على صدرك؟ أتستطيع امرأة عابرة أن تعالج جراحاً غائرة في الصدر؟... لا أظن. 

سيدتي... أنفك الدقيق يذكرني بأنف أمي التي أصيبت ذات ليلة بنزيف مخيف فلم أجد بداً من أخذها إلى قسم المستعجلات وبي خوف عليها. يا لك من ساحرة، صرت أبثك حتى سر أنف أمي.

معذرة، ما قصدت إزعاجك بما حدث، بقيت أنظر إليك حتى سهوت عن الصحيفة العربية التي كانت بيدي، فسقطت على حذائك وبعفوية هربت بقدميك إلى الوراء وعلى شفتيك القرمزتين عذوبة بسمة، فملت بنصفي لألتقط الصحيفة دون أن أفطم نظري عن صفاء مقلتيك.




انظري إلى العازف، كيف يذاعب أوثار غيثارته في حركة إيقاعية ذات انسجام بديع تتجاوب معها قدماه في خفة الراقص الماهر. هذا اللون لا تخلو منه موسيقانا المغربية، ولا سيما منها البربرية... أتعلمين كم بقي أجدادنا العرب بإسبانيا ؟ قرون... وقرون... أعطى فيها الفكر الأندلسي الشيء الكثير... آه لو كنت معي في ليلة لا يبدد ظلامها سوى ضوء شمعة حمراء لأسمعك روائع «ابن زيدون» في حبيبته «ولادة»... أتحبين الشعر؟

يا حبذا لو عرفت ما تحبين وما تكرهين، يا حبذا لو أتيح لي أن أرى من يضمك إلى صدره لا لأنقض عليه انقضاض الأسد على فريسته ولكن لأعرف فقط حسن اختيارك للأحباء. أمن طبع الفراشة أن تحترق بالنور؟ أم في النور جاذبية تضعف أمامها قوة الفراشة فتحيلها من كائن حي إلى كائن يتلاشى باللهيب، أنت لست فراشة في ميدان النور بل أنت نور لمن هو في أيامك.



عجيبة الطريقة التي أنهى بها العازف الاسباني معزوفته الموسيقية! ثم صار يحث الركاب على الإحسان إليه بفرنسية ركيكة تدل على أنه جديد الخطى ببلدك... طريقة تختلف عن طلب الإحسان عندنا. معظم من لهم القدرة على احتراف هذا اللون من الحياة، ما إن يقف أحدهم أمامك حتى يلبس ملامح وجهه كسوة الضعف والخذلان ثم يطلق لسانه بنغمة التضرع والاستعطاف لكي تجعلك تحسن إليه... وعندما... يحسن اليه أي كان يطلق ملامح وجهه مما يكسوه من اكتئاب، ويحرر لسانه من نفحة التضرع، فيطلق سيلاً من الشكر والدعوات الحسنة... وقد يكون محتاجاً بالفعل إلى إحسان الغير، درويشا دفعته الحاجة إلى احتراف التسول، أو يكون ماكراً ذكياً يتدروش لما في الدروشة من ربح لا يكلف مشقة، ولا يتطلب رأس مال.



سيدتي... هذه النظرة منك تعجبني، تتحدين بها من يغار من سباحتي في مقلتيك اللتين لا رغبة لي في الحياة إذا ما غرقت في لجتهما، أكيد أنك أصبحت لا تهتمين لا بمن يقف خلفك، ولا بالعجوز التي نامت عواصف الخريف في أيامها، فصارت تغار ممن يبتسم الربيع في فجر أيامهما... لو كنت شاعراً لقلت في عينيك أرق الكلام... ولكني، للأسف لا أعرف من الشعر إلا قراءته وفوق هذا فإني مجرد إنسان عادي سجل اسمه اليوم في لائحة العاطلين التي أصبحت في وطنك طويلة بقدر ما هي في وطني، منذ أن أغلق المرأب الذي كنت أشتغل فيه بسبب تقاعد صاحبه... وأنا أبحث عن مرأب آخر أشتغل فيه فلم أعثر إلا على الوجوم والعبوس. ونظرات الاشمئزاز والسخرية... لماذا ؟ لأنني أحمل بشرة سمراء، وشعراً داكنا متجعدا... أصبح المهاجر نقطة هامة يرتكز عليها كل معارض سياسي يسعى للوصول إلى الحكم... صار كالعملة الرخيصة التي لا تساوي شيئا...



سيدتي... دعيني أخذك في رحلة قصيرة على جناح ما يفد إلي من عينيك الزرقاوين اللتين تحد زرقتهما أجفان سوداء، وأهذاب طويلة، رحلة ستكون في محيط صديقي «ابراهيم» و«ابراهيم» هذا شاب معتدل القامة، مفتول الساعد، أسمر الوجه، داكن العينين، تعلو حاجبه الأيمن ندبة جرح قديمة لا يذكر لها تاريخاً... أنصحك ألا تنجدبي اليه، إنه لا يتوق إلى الحب، لقد انفتح قلبه مرة واحدة، ثم انغلق على ذكرى حزينة، أودعتها في أعماقه من غابت عنه الغياب الأبدي.

 "أمينة" بسمة فجر ولت قبل إشراقة الصبح... كانت نقية كقطرات الندى جميلة كالطفولة، في عينيها خصام أبدي بين سواد الليل وصفاء النهار، كل منهما يريد أن يبدو أجمل من الآخر... أحبها «ابراهيم» رغم العلو الشاهق الذي كان بين أسرته الفقيرة، وأسرتها الغنية، والده كان يشتغل بستانياً في حديقة أبويها... وصبيحة كل يوم جمعة كان «إبراهيم» يصحب أباه ليساعده في أعمال الحديقة؛ في الحفر، أو نقل بعض الأغراس، أو في تنظيف المسبح الكبير الذي يحتل الجانب الشرقي من الحديقة.. تلك كانت غايته قبل أن يراها تشرف من نافذة بيتها المطلة على الحديقة... وبعدما أصبحت هي غايته الكبرى. صارت الهواء العليل الذي كان يستنشقه بين الأغصان المخضرة، والورود المنفتحة الأكمام... وقد أحس أنها هي الأخرى تسرق منه النظر بين حين وآخر، وتكن له إعجاباً لا يدري سببه، وعندما تلتقي نظراتهما تلوح إليه بيدها في حركة مسرعة ثم تعود إلى داخل بيتها.



لا تنزل إلى الحديقة أثناء وجوده بها؛ كانت تكتفي فقط بالإشراف من النافذة... وكان يسعده هذا، يفرحه، يدخل الأمل إلى قلبه... كان إذا أحس بها تطل من النافذة، يتوقف عما كان يقوم به، ويأخذ في تأملها دون أن يبدي حركة توشي برغبته فيها. كانت تبدو له كنجمة في سماء مضيئة وهو دونها في أرض قاتمة، أصبح يوم الجمعة يومه الأعز يحبه، ويخافه، يخاف أن تقلقها نظراته فيتسبب في طرد أبيه من العمل في الحديقة. ويوم جمعة، وبدلا من أن يرافق والده إلى حيث اعتاد، جاء عندي. أجل، يا سيدتي، جاء ليرفع الستار عن مكنون قلبه... وفي هدوء بقيت أصغي إلى لواعج قلبه، حتى إذا أتى على آخر ما كان عنده، قلت وأنا أمعن فيه النظر: "هل فكرت في الفرق الشاسع الذي بينك وبينها؟" قال دون أن يرفع عينيه من الأرض : "من أجل هذا عدلت اليوم عن الذهاب مع أبي".



أكان ذلك خير سبيل؟ لا، يا سيدتي، لا. بينما كان يبثني أسراره اذا بنا نسمع طرقاً خفيفاً متعاقباً على باب بيتي، نقرات متتابعة تدل على استعجال صاحبها، قمت لأفتح الباب ظانا أن الطارق أمي التي ربما تكون قد نسيت مفتاحها الخاص بالداخل... لكن ما كدت أفتح الباب حتى تراجعت إلى الوراء مندهشاً ممن كانت تقف أمامي، أم «ابراهيم» والتي بادرتني قائلة وهي تبدو مصفرة الوجه زائغة النظر، أنستها البغتة ولا ريب حتى تغطي شعر رأسها الذي كان مخضباً بالحناء حديثا: اعندك «ابراهیم»؟ قلت موجهاً حديثي إلى من كانت تقف أمامي مباشرة: "لاشك عندي في أن الماثلة أمامي.. هي الآنسة "أمينة الراضي".

- نعم... أمينة.

لم أنحت لك بعد تمثال الحب ... الجزء الأول.

مقدمات للوضع البشري



الجزء الثاني من رواية نساء على الطريق للكاتب علي أفيلال، وهو مقتطف من قسم بعنوان لم أنحت لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب، وقد سبق ونشرنا الجزء الأول من هذا القسم في منشور سا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-