هام جدا

لم أنحت لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب الجزء الأول

لم أنحت لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب الجزء الأول

رواية علي أفيلال نساء في الطريق لم أنحت لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب الجزء الأول
نساء في الطريق





سيدتي... كل مافيك يغري ويجدب، عيناك الزرقاوان الصافيتان كبحيرة تغفو الأحلام بأعماقها وتستحم السكينة على ضفافها... أجفانك المكحلة تحرك كوامن النفس الخامدة، جبينك الناصع تتوجه خصلات من شعرك الأصفر المتموج، أنفك الدقيق كآخر لمسة ريشة فنان وهب حياته لتقديس كل ما هو جميل,.. حسناء ممتلئة الصدر، ضامرة الخصر.

سيدتي... إنك لفاتنة، رغم بعض التجاعيد التي تبدو أسفل مقلتيك. سيدتي... أتكونين في سن الثلاثين ؟ وإذا كنت في هذا السن أو قريبة منه، فما دخلي أنا، في ذلك؟ أنت مجرد عابرة جلست أمامي في الوقت الذي أغلقت فيه أبواب عربات «الميترو» الدائم السير، من محطة إلى أخرى؛ ركاب ينزلون، وركاب يصعدون... عملية أشبه ما تكون بالحياة التي لا يؤمن العاقل بعطائها. أتؤمنين بالحياة؟.


يالي من إنسان أبله! أسأل من لا ترد، أسأل عابرة مهما طالت جلستها، فإنها لابد وأن ترحل عن مرأى العين... قد تترك أثرا، وقد تسعد النفس بهذا الأثر لوقت ما، ثم يذوب ويتلاشى كزفرة صدر... أليس كذلك؟. مازلت أسأل... ها أنت تحدقين في كما لم تحدقي في أحد قبلي... ترى كيف أبدو لك؟ هل أبدو إنساناً متوحشاً، تتحكم فيه غريزة الإنقضاض على كل من يرى فيه عكس ما تعود عليه؟ أم ترين أنني فقط، واحد ممن جاءوا للرفع من ثمن الخبز، في وطنك؟.

على فكرة، هل بتت يوماً على الطوى؟.. لا أظن... أنت في بلد متقدم لا يعرف الجوع.. نحن من يعرف أغلبنا الجوع بسبب رواسب التخلف الذي تركتموه لنا.



سيدتي... يبدو أنك جريئة... إنك لا تهتمين بالعجوز التي تجلس بجانبك... هذه العجوز التي رسم الدهر على وجهها النحيف المصفر آثار مروره، كانت من قبل منهمكة في قراءة كتابها القديم، لا تحيد نظرها عنه، حتى اذا لاحظت أنني أطيل النظر إلى وجهك الوسيم، بدأت تتأملك بعينيها الكليلتين ثارة... وتدفع ببصرها نحوي ثارة أخرى، وهي تقلب شفتيها في سخرية وامتعاض... كأنني ماخلقت لأتأمل حسناء مثلك... وهذا كهل خلفك أبيض الشعر، طويل الجسم ضامره، هو الآخر راح يلقي علي نظرات نارية بعد ما كان يسترق النظر إلى صدر شابة تقف قربه، وهي تتأمل في وله واعجاب صوراً فوتوغرافية، لاشك أنها صور حبيب غال عندها... أما بقية الركاب فقد جذب سمعهم وأبصارهم العازف الاسباني الذي صعد خلفك إلى عربة «المترو».

انظري، لا أحد يجلس قربي... أتدرين لماذا ؟ لأنني عربي، والجلوس قرب من هم على شاكلتي يتطلب الحذر... صرنا في نظر البعض منكم مجرد لصوص، لا نراعي حسن الايواء ولا نتورع عن ارتكاب الجرائم... ما من سرقة تقع حتى نتهم بارتكابها، كأن ليس بين ظهرانكم من يقترف الذنب أو يرتكب الجرائم إلا ذوي البشرة السمراء.



هل أنت على رأي هؤلاء؟ من يدري؟ عندما جئت إلى وطنك. لم أشعر بما أشعر به الآن من خيبة الأمل... لم أتصور أن يصبح المهاجر مهدداً بالطرد... ما ذنب هذا الإنسان الذي رزح وطنه يوماً تحت نيّر احتلالكم؟.

سيدتي... ألا يحتمل أن يكون والدك من أطلق النار على والدي أيام مطالبتنا بما هو حق كل من يأبى القيود والأغلال؟ لا، لا تشيحي عني بوجهك الجميل، فما قلت بلغة العيون ما يغضبك.

شاهد أيضا

ألك حاسة تدركين بها ما يخامر نفسي؟ هبي أن لك هذه الحاسة، وأنك قد أدركت ما أسألك عنه بطريقتي التي لا أجد الآن خيراً منها... أتعاتبينني باشاحة وجهك الصبوح؟ ومن أين لك حق العتاب؟ وأنا لم أنحث لك بعد تمثال الحب في ساحة القلب؟ لم آخذ من نفسي ما أحرقه لك بخوراً في معبد اللقاء.


 

أتحبين الموسقي؟ أنا أيضاً أحب هذا اللون من الفن الذي لا تتبلور ذراته الا على حسب ما يتوفر عليه المبدع من مميزات الخيال. ان الخيال ميلاد كل إبداع... أليس كذلك أيتها المليحة التي عادت تجود علي بنظرتها الساحرة؟

سؤال حائر، تشع بوادره من سحر عينيك. لا ريب أنه يدور حول مقدار حبي للفن، اذا كنت صادق الاحساس بأن تموجات النظر قد نقلت لي هذا منك فإنه ليسعدني أن أهمس اليك: لو كان في وسعي أن أصنع من أهذاب جفونك، وأحاسيس وجدانك ميزاناً صافياً لا غش فيه، لأزن، وبسخاء مقدار حبي الذي تربى في خلايا أحاسيسي بكل ما هو جميل، لما ترددت.



سيدتي... كم كان عمرك أيام احتلال النازية لبلدك ؟لا... أنت لم تكوني موجودة أثناء الحرب، إذن لن تعرفي معنى الاحتلال. عندما قام أهاليك دفعة واحدة ضد النازية، صفق لكم القريب والبعيد.,. وصفوكم بالبطولة والشهامة... وعندما قام أهالي بلادي ونادوا باسترجاع سيادتنا منكم، تحرك فيكم ما كان هادئاً، وتزحزح ما كان ساكناً، وقلتم بلسان واحد: «ماذا يريد هؤلاء الإرهابيون؟ وبأية حرية يطالبون؟». أقال أحد النازيين: إنكم إرهابيون؟ وأنكم تطالبون بما لا تعرفون له قدراً؟ .,. طبعاً لا... إن من يطالب بالأرض التي ولد بين أحضانها، لا يكون إرهابياً. لكن من يحترف الموت لا يخيفه الصراخ، ولا العويل، ولا تؤثر فيه أهات الجريح، ولا أنين من يحتضر...

سيدتي... أتعرفين عن ماضينا شيئاً؟... أنا لست ممن يتغنون بأمجاد الماضي، ولا ممن يبكون على الأطلال، بل أنا ممن يؤمن بأن إعادة الشيء إلى صوابه ليس بالأمر الهين، أنتم بالمرصاد إلى طمس معالم أي نبوغ فكري تتجلى بوادره في أفقنا.. لماذا حتى لا تتعادل الكفتان، ويتساوى الضدان. يجب أن يظل الخبز والشاي غذاءنا، وحتى الشاي يتعذر وجوده عند البعض من الأسر المنهوكة المريضة التي ما أنا إلا عرق نابض في جسمها العليل...

قبل أن أهاجر إلى وطنك، يا سيدتي، كان لي بيت خشبي لا ضوء فيه، ولا ماء يحرسه دوماً ذباب بركة آسنة المياه، قديم، لا ينضب منها مجرى البول، ولا تخلو من الفضلات.



 

يالها من عجوز! لقد صارت نظراتها زاخرة بمعاني الكره، والإحتقار، وكذلك الكهل الأبيض الشعر... أما الفتاة فقد أخفت الصور في حقيبة يدها، وأخرجت ظرفاً أزرق تناولت ما كان بداخله من صفحات مات بياضها بحبر قلم داكن... فهامت في قراءتها بكل إمعان... لا ريب أنه خطاب حب وإلا لما تركت لها أنغام العازف الإسباني حرية انسيابها مع تیار عبارات الشوق... معظم الركاب جذبتهم دقة العزف... حتى العرب المتآكلي الملامح العابسي الوجوه... استهوتهم الأنغام الشجية.

أنظري إلى العازف... لن أغار منه عليك. إنك لم تملأى بعد سويداء القلب... إنني أنظر إليك وكلما أطلت النظر إلى محياك الفاتن أشعر بحرارة الانفعال تصبغ أسفل أذني ووجنتي. ألا أبدو لك محمر الوجنتين؟ إذا كنت أبدو لك كذلك، فالسبب يعود إلى بقاء عينيك في عيني. ألا يدل هذا على أن شعوراً بالرغبة فيك لا يختلف ولا ريب عن رغبة تحاولين مداراتها؟ وإلا ما معنى ما تصوبينه نحوي من حلو النظر؟. 

يتبع...

اقرأ المزيد

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-