إذا غرقت في بحيرة عينيك، لا تمدي يديك لإنقادي "علي أفيلال"
![]() |
نساء في الطريق |
منعرج آخر أود أن أدعوك إليه، منعرج جد شائك... أتخافين الأشواك؟ طبعاً أنت في بياض الشمعة قبل أن يذيبها اللهيب، وفي جمال الوردة قبل أن يمسها الذبول، ولكن هذا لا يمنع أن تكون بداخلك قوة تجعلك قادرة على تحمل السير معي، لن يكون السير صعباً، ولن أحدث خلاله ما يغضبك، أتغضبين؟، أعنيدة أنت ؟ مهما تكونين فلن يبلغ بك الغضب... والعناد ما بلغ من بعض رجال وطنك، أيام وجودهم فوق تراب وطني، أتدرين ماذا حدث ؟ لقد هب الواحد منهم تلو الآخر خائفاً مذعوراً الصرخة التي رفعناها كإعلان عما كان في صدورنا من القوة والعزم على زحزحة القاعدة، التي كانوا عليها يرتكزون،
سيدتي.... ماذا حدث؟ أحس أن خطاك لم تعد نشيطة في سيرها، أتريدين العودة ونحن في بداية المنعرج؟ لا، أنت ولاشك نزيهة، وحكيمة، ومثلك لا تحترف مهنة الموت «والتعذيب، أجل مثلك لا تقوى على رؤية صدور يأكلها الرصاص بعد التنكيل والتعذيب؛ لسعات كهربائية عنيفة التيار، تشويه الأماكن الحساسة من الجسم، كلاليب حادة تنزع الأظافر وتخلع حتى الضرس، بعنف ووحشية، سيدتي... ماذا فعلتم، عندما وجدتم النازية تحجب عنكم ضوء الشمس؟ لا، لا شمس في وطنك، ضباب، ومطر، وتحت الضباب والمطر كان الألمان يأكلون صدر شبابكم بالرصاص، ولا مقاومة. لماذا؟ أشل فيكم الخوف غريزة الدفاع عن حوزة الوطن؟ أم أن جاركم العنيد كان قوياً جباراً عرف كيف يخترق صفوفكم التي لم تكن متراصة : ولا متلاحمة قبل الخطاب الذي وجهه «دكول» من خارج الوطن خطابه التاريخي الذي غير مجرى الأحداث أنداك....
لا ريب أنك تعرفين ما جاء في ذلك الخطاب من عبارات حماسية أعادت إلى النفوس، ما كاد الخوف والهلع يسلبها إياه، كادت العزيمة، وفضائل الكرمة أن تنهار في صفوفكم لو لم يدرك "دكول" هذا. وما أقدم عليه هذا الرجل في وطنكم، أقدم على أكثر منه، محمد الخامس في وطني. «دكول» لم يتخذ في شأنه قرار النفي، بقدر ما أتخذ في شأن محمد الخامس، ظنت بطانة الشر أن إبعاد (محمد الخامس عن قاعدة الشعب خير وسيلة لضمان بقاء الوجود الفرنسي فوق الأرض التي نادي صاحبها بتحريرها... ظنت شردمة الشر، أن شعبنا لا شيء. وأننا لا نفقه شيئا في حب الارض، ومادمنا نجهل مكانة الحب فإننا لن نحرك ساكنا حيال أية رغبة يقدمون عليها.. تجاهلوا، قيمة الشعب، واستهانوا به، وأمتدت أيديهم إلى أقدس مالديه.. عمدوا إلى إبعاد محمد الخامس، عن عرشه.
تقتلع الطائرة برمز قدسيتنا تخترق الأجواء البعيدة، في الطريق إلى المنفي... ومحمد الخامس، يتأمل من وراء زجاج النافذة السميك معالم وطنه وهي تختفي شيئا فشيئا عن العين، لا عن القلب وهو لا يسأل عن مصير أهله بقدر ما كان يتساءل بينه وبين نفسه عن مصير الشعب وراءه. ويحس كل واحد منا أنه لا يكتو فقط في أعماق قلبه، بل إكتوى في عزته... وفي انسانيته، وكرامته التي داستها الأقدام اللعينة... هذه إهانة، إهانة شنيعة، غير أن هذه الإهانة المرة امتدت أكثر إلى تحريك رغبة الانتقام في اعماقنا، فصرنا نخوض غمار الكفاح بعزم لا يعرف الخوف، ولا يقف في طريقه اضطراب أو تردد... وثارت ثائرة من ظن أن قيادة الشعب أضحت بين أيديهم، وأن لا مرد لها أرادوه... وغضب «جوان» والذين أوحوا إليه أن الشعب لن يثور، ولن يحرك ساكنا.. لكن ما إن بدأ العملاء يتساقطون الواحد تلو الآخر حتى بهت الكل، وتصدع بأعماقهم صرح الاكاذيب.
سيدتي... ألم اتعبك بالسير؟ مثلك لا تعرف كيف تشق طريقها بين الصخور، ولا كيف تواجه الشمس برأس عار... الشمس في وطنك غير التي في وطني، عندنا حارة، وعندكم تحد من حرارتها كثافة الضباب، وبرودة الجو، سيدتي... دعيني أسبح في بحيرة عينيك لحظة، وإذا غرقت، فلا تمدي يديك لإنقاذي، أنا لا أعرف السباحة إلا في بحيرة العيون، ولا أعرف لذة النوم، إلا بين الشفاه وحرارة الجفون، أبك رغبة في أن تجلسي هنا قليلا ؟ ليكن ! اختاري أية صخرة من الصخور لنعلوها معاً... إن الشاطيء شبه فارغ، اللهم إلا من بعض العشاق هنا وهناك... إن الجو دافئ والبحر يسبح تحت أقدام الصخور....
لا تنسي أن حديقة السندباد خلفنا ببركتها وطيورها وجوها الساحر الجميل... وأشجارها المخملية والتي ماتزال في عمر الطفولة... وعندما تأخذين من البحر متعة النظر ننتقل إليها، وبين ممراتها، وتحت أغصانها اليانعة، سأظل سائرا بجانبك، حتى إذا اتعبك السير، أعرج بك إلى المقهى، لآخذك لك كأساً من الشاي الأخضر... وبعدها، حين يقبل الليل، سوف نسهر معا... إن الليل في وطني ساحر كعين راقصة تخطو خطوتها الأولى نحو المجد... وعند ما يراود النوم أجفائك، سآخذك إلى أجمل فندق لتنعمي بنوم هادىء مريح، لنا في الغد ياسيدتي سيرة أخرى، نبدأها بزيارة قبر «أمينة» لا، لا تفكري في حمل باقة ورد، فنحن لا نحمل لموتانا ورداً ولا زهراً.
مقتطف من مقدمة رواية نساء في الطريق
عالم الاغتراب عالم زاخر بالمتناقضات، مليء بالعجائب، والمغترب فيه، إما أن يكون مستلبا يذوب وينصهر في المحيط الذي هاجر إليه أو متجدراً في أصله، يعيش بالكد، ويعمل بالجد، وقلبه مع أهله في وطنه... يسبر الأغوار باحثا، ويرنو إلى المستقبل آملاً في استقرار نهائي في بلده الأول.
وصديقنا أفيلال من الصنف الثاني؛ عايش غربته ما يناهز الربع قرن، وشق ـ كما يقول في إحدى قصصه- الصخر ليضمن لأهله حياة الإستقرار، ولم يكتف بهذا بل أبت قريحة الإبداع فيه إلا أن يحمل مع المعول كما قال، والمقص كما هي حرفته، قلما يغوص به في أعماق نفسه أولاً، واصفا ما يعانيه وما يكابده من مشاق الغربة في المهجر، ومشاق غربته الثانية حين يعود إلى أهله، ثم ينتقل إلى وصف معاناة غيره من المغتربين، ممن سلبتهم الأجواء الجديدة، وأماتت فيهم معالم الاتصال بالماضي، ومن جرفهم تيار التفتح على الملذات حتى غدوا لها عبيداً يتكسبون بالحرام ويثرون على انقاض الكرامة... بل ويتغنى بعضهم بالفضاءات الجديدة بلغة الغربة، وتفكيرها ناسيا أصالته كما فعل بعض الأدباء هناك... وكما يفعل من تجنس بجنسية الاغتراب، ونشأ أطفاله بألبان تميت فيهم روح التفكير في الوطن....
حاولنا هنا أن نقدم القسم الثاني من رواية نساء في الطريق للروائي علي افيلال، وللإشارة أنه سلق وقد نشرنا القسم الأول في جزئين بعنوان لم انحث لك تمثال الحب في ساحة القلب، وستجدونها على موقعنا، أما هذا القسم فهو بعنوان إذا غرقت في بحيرة عينينك، لا تمدي يديك لانقادي، ونسحاول في المستقبل القريب نشر باقي الأقسام لقرائنا الكرام.