المعرفة العلمية والابستمولوجية
 |
المعرفة العلمية |
عبارة « المعرفة العلمية » ، يفهم منها أن ثمة معرفة أو معارف غير علمية . وإذا كان ذلك كذلك ، فالمعرفة إذن جنس تنضوي تحته أنواع مختلفة من المعرفة ، ومنها المعرفة العلمية . وعلى ذلك يلزم البدء بالتفكير في المعرفة بمفهومها العام قبل تناول المعرفة العلمية . ومن شأن هذا الترتيب أن يؤدي بنا إلى إدراك السبب أو الداعي إلى التفكير ، فلسفيا ، في المعرفة العلمية . ماذا يعني إذن ، أولا ، كون المعرفة العلمية ، معرفة ؟ ـ ولماذا اتخاذ المعرفة العلمية موضوعا للتفكير الفلسفي ؟.
السؤال الأول يبدو بسيطاً ، لا يثير الجواب عليه أي إشكال . وذلك لكون كلمة معرفة تتداول في لغة الحياة اليومية بمعنى ، أو معان ، تبدو واضحة وبديهية للجميع ، وهذا ، في مقابل أو إلى جانب دلالاتها الخاصة ، في مجالات التخصص الفكري والعلمي والتطبيقي ... وإذا تأملنا جيدا مدلول كلمة معرفة أو فعل عرف وتعريفاته في مختلف السياقات التي ترد فيها في لغة الحياة اليومية ، فإننا نجدها تعني بشكل عام : حصيلة أو نتيجة فكرية أو معلومات أو أفكار أو نظريات . سلوكية أو تواصلية . فأن تعرف شيئا ، في مستوى لغة الحياة اليومية ، هو أن تمتلك عنه معلومات او افكار نظرية.
وحين تقول : إنك تعرف شخصا فإن ذلك يعني ، إلى جانب امتلاك معلومات عنه ، قيام علاقة تواصلية أو تبادلية بينك وبينه ( صداقة ، حب ، تجارة ، عمل ، تعلم ، لعب ، ... إلخ ) . وحين تقول إنك تعرف كيف تقوم بعمل أو فعل أو سلوك ما ( كتابة ، قراءة ، سباحة ، حل مشكلة ، حل تمرين ، سياقة ، جراحة الخ ) فأنت تعني أنك تمتلك عادات أو سلوكات فكرية وجسدية مكتسبة من ، قبل ويمكنك القيام بها وتكرارها . في مجال التخصصات الفكرية والعلمية ، ينصرف معنى كلمة معرفة كذلك ، إلى الحصيلة أو النتيجة الممتلكة أو المتوفرة ، مع فارق ، وهو أن المتخصص ( العالم ، المفكر ) يمتلك القدرة على البرهنة على ما تمتلكه من معرفة نظرية أو تطبيقية ، أي على إعادة سيرورة بنائها وإنتاجها ، بينما تفتقر المعرفة في معناها العامي لهذا العنصر وتقتصر على كونها حصيلة أو نتيجة للخبرة والتجربة والتعود والإستعمال.
غير أنه إذا كان صحيحا أن المعرفة تتبدى ، في دلالتها المباشرة الملموسة ، في صورة حصيلة أو نتيجة ممتلكة يتصرف فيها الإنسان العادي والمتخصص ، ويستخدمها في علاقاته بالعالم وبالآخرين ، فإن ذلك يفترض ، منطقيا ، أن المعرفة بوصفها حصيلة أو نتيجة ، مسبوقة بعملية المعرفة ، بفعل المعرفة . وهذا يقتضي التساؤل عن مكونات وآليات هذا الفعل المنتج للمعرفة وطبيعته والإشكالية التي يطرحها . ولكن هذا التساؤل يسبقه تساؤل آخر يتعلق ، قبل أي شيء ، بوجود المعرفة ، بمبرر هذا الوجود ووظيفته أو وظائفه في الحياة البشرية ، إذن : ـ لماذا هناك معرفة بدلا من عدم المعرفة ؟ وفيم يقوم فعل أو عملية إنتاج المعرفة ، وأي إشكالية فلسفية يطرحها هذا الإنتاج ؟.
سبب وجود المعرفة وأساسه هو العمل أو الشغل البشري فالمعرفة ( أو التفكير المؤدي إليها ، والمحقق لها ) هي ، بالنسبة إلى الإنسان ، شرط قيامه بأي عمل أو فعل في الخارج ولكن العمل البشري ، أو بوجه عام ، التفاعل مع الواقع الخارجي ( من مستواه الحسي ـ الحركي إلى اللعب ، وإلى مستوى التفكير العقلي المنطقي ، والعمل المنظم داخل إطار مؤسسي ) هو أيضا منبع ومصدر وشرط تكون البنيات المعرفية العقلية فالمعرفة في أصلها الوظيفي ، ذات وظيفة مكملة ومتممة للوظائف العضوية الغريزية الحيوية الثلاث : الغذاء ، الحماية ، التكاثر . فالإنسان يتميز بوجود نظام معرفي مواز للنظام العضوي ( البيولوجي ) ، ويرتبط به في صورة أداة أرقى نامية لتلبية الوظائف العضوية وتوسيع مجال إشباعها وإرهافه باستمرار . هذه العلاقة الشرطية المتبادلة المعرفة والعمل البشري تجعل منهما قيمتين مميزتين للإنسان . وتتمثل قيمة المعرفة أو المعرفة من حيث هي قيمة ، في أنها « شرط للحياة ، وقطعة منها ، بل هي ذاتها الحياة ، ( ومن ثم فهي ) قوة دائمة النمو » ، يجلب امتلاكها الطمأنينة والرضا والسعادة للإنسان، ولكن المعرفة قد تكون من حيث هي قوة مصدر شقاء الانسان وتعاسته، وربما سبب هلاك البشرية وفنائها.
تحمل المعرفة البشرية إذن في صميمها تناقضا بين كونها قوة يجلب امتلاكها الطمأنينة والرضا والسعادة ، وكونها قوة تهدد وجود الإنسان بالفناء ، كما تحمل أيضا تناقضا ثانيا يتمثل في أنها « الآلة التي نحاول بواسطتها أن تحصل على المطلق أو هي الوسط الذي ندركه من خلاله وعبره » إن المعرفة هي « صراع ضد المجهول الذي يعاود الظهور وينبعث باستمرار ، لأن كل حل لمشكلة أو مسألة ما ، تنتج عنه مسألة جديدة » ( إدغار موران ) .
إن المعرفة والعرفان هي إدراك الشيء بتفكر تدبر لأثره ... وأصله من عرفت الشيء أي أصبت عرفه أي رائحته ، أو من أصبت عرفه أي حده. بمعنى آخر « المعرفة فعل عقلي يتم به حصول صورة الشيء في الذهن . أو هي الفعل العقلي الذي يتم به النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته »، ثم « إن معرفتنا العادية تتعلق فقط بموضوعها الماثل أمامها ، ولا تتخذ نفسها في البداية ، موضوعا لها ، ولكن الكلية الحاضرة في فعل المعرفة تشتمل ليس على الموضوع فقط ، بل كذلك على الأنا ( الذات ) العارفة ، وعلى العلاقة المتبادلة بينها وبين الموضوع ، أي على الوعي » من هذه التعاريف يتبين أن المعرفة هي علاقة بین ذات وموضوع وأن الذات تمارس فعل المعرفة في شكل إدراك بالحواس أو بغيرها ، وفي شكل تصور ، وتفكير ووعي . وهذه العلاقة تفترض ، بسبب الوعي المصاحب لها ، التمايز بين هذين الطرفين المكونين لها : الذات / الموضوع ، حتى في حالة كون موضوع المعرفة هو المعرفة ذاتها . يتبين من هذا التوقف عند المعرفة ، مفهوما ودلالة ومكونات ، أنها ليست بديهية ولا بسيطة وإنما هي معقدة وإشكالية.
ومع ذلك فإننا نستخلص من ذلك ما يسمح لنا بأن ندرك ، في مستوى أول ، معنی کون المعرفة العلمية ، معرفة ، إنها معرفة بمعنى أنها فعل عقلي يجري بين ذات وموضوع ينم بواسطته تحويل الواقع إلى مفاهيم ونظريات، ودخول المعرفة العلمية كنوع تحت جنس المعرفة ، يفترض أن الأولى تطرح نفس الإشكالية الفلسفية العامة التي تطرحها المعرفة، غير أن تميز المعرفة العلمية عن غيرها من أنواع المعرفة يفترض أن تتميز إشكاليتها بمميزات خاصة ، فبم تتميز هذه المعرفة؟.
تتميز المعرفة العلمية بمميزات ثلاث : إنها أولا الشكل المعرفي المهيمن في المجتمعات المعاصرة،في نمط وجودها وعلاقتها بالطبيعة ، وفي شكل ثقافتها وتفكيرها، ثم تتميز ثانيا ببنية خاصة ترتكز على منهج خاص، وتتميز أخيرا بنوع العلاقة بينها وبين المعرفة العامية، والآن لماذا التفكير الفلسفي في المعرفة العلمية ؟ سببان رئيسيان يستدعيان هذا التفكير هما : أن المعرفة العلمية ليست كلها علمية " ولأن هذه المعرفة تنتج علما بموضوعاتها ولكنها لا تنتج في ذات الوقت علما بذاتها . فهي تنطوي على إشكالات نظرية ( فلسفية ) لا يدخل في مجال اختصاصها طرحها ومعالجتها، ومن هنا ضرورة قيام تفكير نقدي حول المعرفة العلمية ، أو معرفة من درجة ثانية حول المعرفة العلمية.
والتفكير النقدي في العلم كان من عمل الفلسفة منذ القديم . ولكن الفلسفة التقليدية لم تكن تدرس المعرفة العلمية دراسة موضوعية من حيث نمط متميز ، وإنما كانت تدرسها ضمن إطار نظرية عامة ( فلسفية تأملية ) في المعرفة ، ثم إن هدفها كان هو احتواء النموذج العلمي القائم أو استغلاله لأهداف ميتافيزيقية وأيديولوجية. وعندما انفصلت العلوم ، في العصور الحديثة ، عن الفلسفة واستقلت عنها ، وأصبحت تشكل وتنتج نمطا خاصا من المعرفة ، نشأ مبحث جديد تحت اسم الإبستيمولوجيا، يهتم بالمعرفة العلمية بما هي كذلك ، غير أن مفهوم الابستيمولوجيا وموقعها بين الفلسفة في صورتها الكلاسيكية ظلاً غامضين وغير واضحين تماما، ذلك لأن مصطلح ابستيمولوجيا ارتبط ، رغم تأخر ظهوره بدلالته الحديثة، بالفلسفة التقليدية ( فلسفة العلم ) وبنظرية المعرفة الفلسفية.
ولكن الإبستيمولوجيا تحاول أن تستقل عن الفلسفة وتتخذ صورة دراسة علمية للعلم رغم ما يطرحه ذلك من إشكال ، أنه إذا كانت الإبستيمولوجيا علما للعلم ، أيضا في حاجة إلى إبستيمولوجيا من درجة ثالثة وهكذا، ولكن مهما يكن فإن الإبستيمولوجيا تتناول وتعالج مجموعة من القضايا والإشكالات حول المعرفة العلمية ، يمكن الاقتصار على بعضها لأهميته الأولية:
- مشكلة الموضوع العلمي : شكل وجوده وطبيعته.
- مشكلة المنهج العلمي: مكوناته وأسسه.
- مشكلة تطور العلوم: مفاهيمه وقضاياه.
ماذا يعني أن تفهم كلمة « موضوع أن يكون لعلم ما موضوعه الخاص به ؟ هل ينبغي هنا بمعناها الحرفي المباشر ، أي ما يوضع أمام الذات العارفة وقبالتها وعلى مسافة منها تتأمله وتلاحظه وتستقصي مختلف جوانبه ومكوناته وتستكشف قوانينه وعلاقاته ؟ فيعني ذلك أن علما من العلوم يجد موضوعه جاهزا سابق الوجود ؟ أم أن موضوع أي علم هو ما ينتجه هذا العلم وینشته وپينيه ، بحيث لا يوجد قبله وإنما يبدأ ببداية العلم ، وينمو ويتطور مع نموه وتطوره ؟ هذا الإحتمال الأخير هو الذي يؤكده واقع تاريخ العلوم وتطورها من حيث ارتسام ملامح موضوعاتها وحدودها ، وتحدد نطاق ميادينها وحقولها.
هكذا نجد أن موضوع الرياضيات قد تطور مفهومه وتصوره خلال تاريخ الرياضيات : كان التصور السائد هو أن الرياضيات تدرس « كائنات » رياضية ( أعدادا ، أشكالا ، علاقات ... الخ ) تصورها أفلاطون صورا تقريبية للمثل ، وتصورها ارسطو منتزعة من الواقع الحسي المشخص بعمليتي التجريد والتعميم . وفي العصر الحديث نشأ داخل الرياضيات اتجاهان رئيسيان حول تصور موضوع الرياضيات : اتجاه حدسي يرى أن الكائنات الرياضية تتمتع بنوع من الوجود الفكري بحيث يكتشفها العالم الرياضي كما اكتشفت القارة الأمريكية ، ولا يبدعها . واتجاه شكلاني أو صوري يرى موضوع الرياضيات « بنيات » مجردة ، أي منظومات القابلة للصياغة الصورية ، والقابلة للإنطباق على أي مجموعة من العناصر أعداداً كانت أو أشكالا هندسية ، أو علاقات جبرية رمزية ، أو غير ذلك.
العلاقات في الفيزياء كذلك خضع موضوع البحث الفيزيائي ( الظواهر الفيزيائية ) لتطور تاريخي ، جعله ينتقل من الواقع الحسي المباشر القابل للملاحظة الحسية المباشرة ، إلى واقع آخر يبنى أو يعاد بناؤه انطلاقا من هذا الواقع الأول ، وذلك بواسطة القياس والصياغة الرياضية الكاشفة لمكونات الظواهر وعلاقاتها الثابتة والقابلة للتكرار . على عكس ذلك ، لم يكن الواقع البيولوجي ( الظواهر البيولوجية ) في مباشرته الحسية والكيفية ، هو الذي شكل عائقا في وجه إرساء دعائم البيولوجيا كعلم تجريبي ، بل الحياة من حيث هي مفهوم مشحون بدلالة ميتافيزيقية غيبية وكيفية . وفي سبيل التخلص من هذا العائق الإبستيمولوجي في البيولوجيا ظهر في هذه الأخيرة مفهوم الكائن الحي بديلا لمفهوم الحياة . ثم أصبحت البيولوجيا اليوم تحدد موضوعها وميدانها في ما يسميه البيولوجيون الأنساق الحية.
مسألة الموضوع العلمي في العلوم الإنسانية أشد تعقيدا عنها في العلوم السابقة الذكر . لأن الظواهر الإنسانية تبدو غير قابلة للإختزال والتنقية والإصطفاء والتصفية والصياغة الرياضية التجريدية . فهي تحمل دلالة ومعنى ، ويشكل الوعي جزءا مكونا لها ، وتستعصي بسبب بعدها الزمني الصميمي فيها على التثبيت والقياس والتكرار . ثم إن العلوم الإنسانية تواجهها منذ نشأتها مشكلة إبستيمولوجية مركزية هي مشكلة الموضوعية، تجعل صفتها العلمية موضع تساؤل . والوضعية المعاصرة لهذه العلوم تتميز ، على العموم باستعارة تصوراتها لموضوعاتها ومجالاتها من تصورات العلوم الدقيقة ( الرياضيات ، الفيزياء وفروعها ، والبيولوجيا وفروعها ) ، مع وجود اتجاهات تبحث عن تصوارت خاصة متميزة للموضوعات العلوم الانسانية . والنتيجة أن تحديد موضوع أو ميدان أي علم من العلوم الإنسانية لا يستلزم فقط اعتبار تطور هذا العلم ، نشأة وتطورا ، بل يستلزم كذلك ربطه بالإتجاه ( الفلسفي أو الإبستيمولوجي ) أو المدرسة التي يتم انطلاقا منها تصور ذلك الموضوع.
فليس لعلم النفس موضوع أو ميدان واحد متفق عليه ، وإنما يختلف تصور هذا الموضوع تبعا المدارس علم النفس واتجاهاته . نعم هناك محاولة لتركيب هذه التصورات المختلفة لموضوع علم النفس، ولكن الاختلاف يبقى في مستوى البحث والنتائج ، وكذلك الشأن علم الإجتماع ، بحيث أن إي تحديد الموضوعه يقترن بمدرسة معينة بمفکر معين كدوركهايم مثلا كذلك الأمر بالنسبة لعلم التاريخ فرغم أن الإنفاق يسود في هذا المجال ، على موضوعه هو الماضي البشري، إلا أن الاختلاف يظل قائما حول مفهوم هذا الماضي ، وحول تصور الزمانية التاريخية واتجاهها ، ومدى تحقق الموضوعية في إعادة بناء الحوادث التاريخية في استقلال عن ذاتية عالم التاريخ وعن عصره وثقافته والايديولوجية التي تحكم تفكيره ونظرته، وتأسيس « معرفة موضوعية » عن الماضي.
هذا الإشكال الإبستيمولوجي المتعلق بالموضوع العلمي سواء في صيغته العامة ، أي من حيث هو موضوع علمي يتميز بصفته العلمية كما تشير إليه كلمة موضوع خارج العلم ، وفي صيغه الجزئية الخاصة بكل علم علم ، يرتبط ارتباط وثيقا بإشكال ابستيمولوجي آخر هو إشكال المنهج العلمي . إذ لا يمكن ، في الواقع ، طرح أحد هذين الإشكالين بمعزل عن الآخر . فالتصور التقليدي الذي يعتبر موضوع أي علم من العلوم موجودا قبل العلم الذي يتحدد فعل ميلاده بالتقائه بذلك الموضوع والعثور عليه جاهزا مسبقا ، ينتهي إلى فكرة أن موضوع العلم هو الذي يحدد ويعين المنهج الملائم والمطابق لدراسته . أما التصور المعاصر للعلاقة موضوع / منهج في مجال العلوم ، فهو يعتبر أن المنهج هو الذي يخلق الموضوع ويحدده ، بدليل أن الأزمات العلمية التي تقود إلى إعادة النظر في مناهج العلوم تؤدي أيضا إلى إعادة النظر في تصور موضوعاتها .
والتصوران معا يقودان إلى فكرة تعدد العلوم واختلافها وانغلاقها على ذاتها بسبب الإختلاف المفترض في موضوعاتها ومناهجها . ولكن نشوء علوم بينية أخذت تعمل على تكسير حدود العلوم وتفتحها بعضها على بعض ، طرح مسألة هذا التعدد والاختلاف وأصبحت مسألة وحدة العلوم ، موضوعات ومناهج ، تشكل قضية ابستيمولوجية تفتح المجال للتفكير في وحدة منهجية ، أي في منهج شمولي قادر على معالجة مختلف الموضوعات والظواهر بعمليات وإجراءات كونية ، تحقيقا لمشروع ليبنتز في إقامة « رياضيات كونية » تقوم على التأليف عناصر أيا كانت . الصورة الأولية لهذا المشروع بدأت في علوم الرياضيات حيث تم تجاوز المناهج الرياضية المختلفة باختلاف فروع الرياضيات الكلاسيكية ( الحساب ، الهندسة الجبر ... الخ ) وتم تشييد المنهج الأكسيومي، الذي عمل على إبراز البنية الفرضية الاستنتاجية للإستدلال الرياضي وأخضعها لقواعد صورية صارمة وعممها على جميع فروع الرياضيات فالغي بذلك الحدود الفاصلة بينها منهجيا على الأقل.
وسار المنهج الفيزيائي في نفس الإتجاه ، وذلك عن طريق الكشف عن بنية الإستقراء وإدخال لحظة الصياغة الرياضية والإستنتاج الرياضي في لحظات هذا المنهج ، وتحويله من منهج تجريبي خالص إلى منهج تجريبي رياضي أكسيومي ، بحيث بحيث أصبح التجريب والترييض ( الصياغة الرياضية ) هما العنصران المميزان للمنهج الفيزيائي المعاصر ، مع تميز المنهج الاستقرائي بمبادئه وأسسه وأهمها السببية والحتمية وما يثيرانه من إشكال، وهذان المنهجان الرياضي الفرضي ـ الاستنتاجي ، والفيزيائي التجريبي ـ الرياضي ، هما المنهجان السائدان وهما اللذان تشتغل بهما العلوم الأخرى . البيولوجية، والسيكولوجية، والسوسيولوجية، والتاريخية، مع العمل على تكييفهما وملاءمتهما مع ميادين هذه العلوم المختلفة، عن طريق إدخال تعديلات عليهما بالحذف أو التعويض أو الزيادة.
الإشكال الإبستيمولوجي الثالث هو إشكال تطور العلوم . فإذا صادرنا على أهمية الشروط المادية الإقتصادية والسياسية والأيديولوجية لتطور العلوم ونموها ، فإننا نجد أنفسنا ، ونحن ننظر إلى تاريخ العلوم بوصفه تاريخا نظريا ، أي تاريخ الإنتاج المعرفي للمعارف العلمية ، أمام أسئلة كهذه : هل يخضع تطور العلوم لقانون بنيوي معين ؟ وهل تخضع النشأة النظرية ( ظهور علم ما ونشأته ) لشروط نظرية وعقلية معينة ؟ ما علاقة ماضي أي علم بحاضره ؟ وهل العلم كوني تتضافر في بنائه وانتاجه ونموه وتقدمه طاقات جميع الشعوب والأمم والحضارات أم أنه تعدو أن نتاج الحضارة الغربية الأروبية وحدها ؟ هذا الافتراض الأخير هو الذي ساد لأمد طويل - مجال تاريخ العلوم ، بحيث كان ينظر إلى إسهامات الحضارات الأخرى على أنها لا : تكون بدايات أولية ، أو مراحل احتضان ورعاية التراث العلمي الإغريقي والحفاظ عليه إلى حين عودة الغرب الأروبي إليه وإحيائه ومواصلته وتطويره . وقد أخذت المقاربة العلمية التاريخية المنظمة والدقيقة للتراث العلمي العربي الإسلامي ( وغيره ) تفرض في الوقت الحاضر إعادة النظر ذلك التصور القائم على نزعة المركزية الأروبية . بل ربما أدى ذلك إلى إعادة النظر حتى في معايير العلمية ومقاييسها المنهجية والإجرائية في ضوء تحقيق هذا التراث العلمي ودراسته ، وأيضا إلى مراجعة بعض المفاهيم المركزية في الإبستيمولوجيا التاريخية مثل مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية التي تضع بداية العلم الفيزيائي بمعناه الدقيق في أعمال جاليليه ، والحال أن من الممكن أن نجد لدى ابن الهيثم في أعماله في البصريات خاصة ، وفي أعمال علماء الجبر العرب - العناصر الأساسية لتلك القطيعة ، أو للبداية الحقيقية للفيزياء الحديثة ، للعلم التجريبي الحديث.