تصحيح الامتحان الوطني الدورة العادية 2018 في مادة الفلسفة
![]() |
بناء المعرفة العلمية |
سنحاول من خلال هذا الموضوع، تحليل قولة فلسفية، كانت من المواضيع التي ادرجت ضمن الإمتحان الوطني الموحد لسنة 2018، وخاصة في الدورة العادية، والقولة هي كالآتي : "تتقدم النظرية على الوقائع، ولا فائدة من اللجوء إلى التجربة ما دام العالم يملك المعرفة التي يبحث عنها حتى قبل أن يجري أي تجربة." بين انطلاقا من القولة، مدى إمكانية الاستغناء عن التجربة في بناء المعرفة العلمية، ويبدو من خلال هذه القولة وكذلك من خلال المطلب المرافق لها، أنها تتحدث عن بناء المعرفة العلمية، وتؤكد على فكرة أن العقل الرياضي ليس في حاجة إلى التجربة في بناء النظريات العلمية، وبالتالي كي نعالج هذه القولة ينبغي أن ننفتح عن المحورين الأول والثاني من مفهوم النظرية والتجربة، وهما محور التجربة والتجريب، وكذلك محور العقلانية العلمية، وطبعا المجال الذي سنعالج ضمنه هذا الموضوع، هو المجال الابستيمولوجي أو المعرفي، الذي يهتم بدراسة الظواهر الطبيعية والانسانية، من أجل فهم القوانين المتحكمة فيها، وتسخير هذه المعرفة لصالح الانسان، من أجل التحكم في هذه الظواهر وتغيير مسارها.
محتويات الموضوع:
- المعرفة العلمية بين التجربة والعقل مقدمة جاهزة.
- العقل هو أساس بناء المعرفة العلمية (التحليل).
- للتجربة دور مهم في بناء المعرفة العلمية (المناقشة.
- ضرورة تحديد معيار للعلمية (التركيب).
المعرفة العلمية بين التجربة والعقل مقدمة جاهزة
إن الاهتمام بالمعرفة العلمية ليس وليد اللحظة الراهنة وانما هو موضوع شغل الفلاسفة والعلماء منذ فترة طويلة، وسنعالج هذا الموضوع ضمن المجال المعرفي الذي يهتم بدراسة الظواهر الطبيعية والانسانية معا، لمعرفة القوانين التي تتحكم فيها، وتسخير هذه المعرفة لصالح الانسان، وهناك العديد من الصعوبات والتعقيدات التي تعترض الدارس للقضايا التي يثيرها هذا المجال، وذلك ما نجده عندما نريد معالجة مسألة بناء وتأسيس المعرفة العلمية، التي اثارت نقاشا وجدالا عبر تاريخ العلم، فظهر اتجاهين مختلفين، احدهما يعطي أهمية للتجربة والثاني يبخس دورها ويعلي من قيمة العقل في بناء هذه المعرفة، وكل واحد منهما يحاول تفنيد الحجج التي يقدمها الطرف الآخر، وهذا ما يثير مجموعة من الاشكالات، والتي يمكن بسطها كالآتي: على أي أساس تبنى المعرفة العلمية؟ هل تبنى على أساس عقلي نظري؟ أم على أساس واقعي تجريبي؟ أم أن الحوار الجدلي بين العقل والتجربة هو أساس بنائها؟.
العقل هو أساس بناء المعرفة العلمية (التحليل)
ان العقل النظري حسب هذه القولة، يملك المعطيات الكافية التي تمكنه من بناء
المعرفة العلمية، والتي تجعله متعاليا عن التجربة والواقع، وبالتالي، فلا قيمة
للتجربة والواقع في تأسيس المعرفة العلمية، وهذا معناه، ان المعرفة العلمية لا
تبنى على اساس تجريبي واقعي، وإنما على أساس عقلي نظري تجريدي، يتم انطلاقا من مقدمات وصولا
إلى نتائج بطريقة عقلية رياضية منطقية، وهذا ما فرضه الواقع الجديد في الفيزياء
النظرية، حيث أصبح واقعا رياضيا، عبارة عن مسافات واشكال هندسية...، لذلك يقول
غاليلي "ان الطبيعة كتاب مفتوح مكتوب بلغة رياضية"، وبالتالي اصبح دور التجربة دورا
ثانويا في بناء المعرفة العلمية، خاصة عندما يتعلق الامر بالظواهر الميكروفيزيائية أو الماكروفيزيائية،
فكتلة الكواكب مثلا، توصل لها العلماء انطلاقا من حسابات رياضية عقلية منطقية،
وهذا ما يبرز أهمية العقل الرياضي التجريدي في تأسيس النظريات العلمية.
ولفهم واستيعاب هذه التصور، لا ينبغي أن نغفل الوقوف عند بنيته المفاهيمية، والتي تتألف من ثلاث حلقات أساسية وهي : المعرفة، النظرية، التجربة، حيث تمثل المعرفة نشاطا عقليا تتمثل من خلاله الذات العارفة (العالم) موضوع المعرفة (الظاهرة المدروسة)، والمعرفة انواع منها الدينية والفلسفية والسياسية... وغيرها وما يهمنا نحن هو المعرفة العلمية، والتي لا يمكن الحديث عنها دون الحديث عن الأسس التي ننطلق منها في بنائها، من قبيل الأسس النظرية العقلية، على اعتبار النظرية كل تأمل عقلي معزول عن الواقع ويناقض الممارسة التجريبية، ثم هناك أسس تجريبية واقعية، ولا بد هنا من التمييز بين التجربة العامية والتجربة العلمية، فالعامية هي التي يعيشها كل فرد بطريقة تلقائية ويكسب من خلالها خبرات ومهارات، اما العلمية فهي اعادة بناء للظواهر الطبيعية داخل المختبر واستنطاقها وفق منهج علمي دقيق، ويبدو أن هناك علاقة تكامل وتداخل بين هذه المفاهيم، حيث لا يمكن فهم واستيعاب مفهوم النظرية إلا على ضوء مفهوم التجربة، كما لا يمكن استيعاب مفهوم التجربة إلا في ظل استحضار مفهوم النظرية، ولا يمكن فهم واستيعاب مفهوم المعرفة إلا بالعودة إلى الأسس التي تقوم عليها وهي النظرية والتجربة.
إن بناء هذا الموقف كان انطلاقا من نفي دور التجربة والواقع في بناء المعرفة العلمية، والتأكيد على أسبقية العقل في ذلك، مادام العقل يملك المعطيات التي تساعده على بناء المعرفة في تعال تام عن الواقع والتجربة، فهذه المعطيات هي شرط ضروري حتى يتمكن العالم من بناء النظرية العلمية بطريقة مجردة دون اللجوء إلى التجربة والواقع، وهكذا فالنظريات العلمية إنما هي بناء نظري محض، مادام هذا العقل يملك المعطيات الأولية والمبادئ التي يستند إليها العالم في عملية بناء المعرفة العلمية، لكن ألا تمثل التجربة والواقع كذلك دورا مهما في بناء المعرفة العلمية؟
للتجربة دور مهم في بناء المعرفة العلمية (المناقشة)
إن هذه الأطروحة تكتسي أهمية فكرية وقيمة فلسفية، حيث تمثل تزكية وامتدادا
لمجموعة من التصورات، التي حاولت معالجة إشكالية بناء المعرفة العلمية، وتجاوزا في
نفس الآن لتصورات أخرى، وذلك من خلال تبخيسها لأهمية التجربة في بناء المعرفة العلمية،
والتأكيد على دور العقل التجريدي في ذلك، وإذا عدنا إلى تاريخ العلم، سنجد العديد من
النظريات العلمية التي كانت نتيجة لعمليات عقلية حسابية، من قبيل نظرية النسبية
لإينشتاين أو الطريقة التي تم من خلالها اكتشاف كوكب نيبتون او حساب كتلة الكواكب وغيرها من النظريات العلمية ذات الاساس العقلي
المجرد، لذلك نجد ألبير اينشتاين يرى أن المعرفة العلمية تتشكل من مفاهيم وقوانين ينشئها
العقل الرياضي ويستنبطها منطقيا من مقدمات، بمعنى أن النظريات العلمية هي شبكة من
العلاقات الرياضية التي يبنيها العقل الرياضي بمعزل عن الواقع، وبالتالي فالمبدأ
الخلاق في العلم لم يعد يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي المبدع والذي يمنح
النظريات الفيزيائية قوتها المنطقية، ثم إن روني طوم يرى بأنه لا يمكن اعتبار التجريب العلمي هو المقوم الوحيد
لتفسير الظواهر الطبيعية وتعليل أسبابها، فهناك مجموعة من الظواهر التي يعجز
المنهج التجريبي على إدراك حقيقتها، وبالتالي لابد من الانفتاح على عنصر الخيال
وإدماجه في عملية التجريب، وهذا الانفتاح على الخيال يمثل قفزة نوعية نحو تجربة من
نوع آخر تسمى التجربة الذهنية التي تمنح غنى للواقع وتكمله وبالتالي تطور المعرفة
العلمية.
لكن بالرغم من
الطابع الايجابي لهذه الاطروحة، الا انها تعرضت لمجموعة من الانتقادات، لأن الثقة العمياء في
العقل قد يسقطنا في نزعة مثالية ميثافيزيقة، كما أن إقصاء دور التجربة في بناء النظريات العلمية، فيه نوع من التجاهل للدور الفعال الذي لعبه المنهج التجريبي في تطور العلم في مرحلة من
مراحله، حيث نجد العديد من النطريات العلمية ذات الأساس التجريبي الواقعي، وبالتالي عندما نبخس من قيمة التجربة في بناء
المعرفة العلمية، فهذا قد يطرد مجموعة من النظريات من مجال العلم، رغم قوتها ومشروعيتها العلمية، وقد رأينا كيف ساهم المنهج
التجريبي بخطواته الأربع في بناء المعرفة العلمية، وذلك ما نجده مع كلود برنار الذي يؤكد على ضرورة
معرفة العالم بمجموعة من الشروط والمبادئ المنهجية والنظرية لبلوغ الحقيقة
العلمية، فالتجريب عبارة عن خطوات منهجية مثلى إذا اشتغل العالم بمقتضاها فإنه
يتوصل لمعرفة القوانين التي تتحكم في الطبيعة، وهي: الملاحظة، الفرضية، التجربة،
ثم صياغة القانون، ولما كان هاجس كل نظرية علمية هو الحصول على تلك القوانين
الثابتة المتحكمة في حدوث ظاهرة ما فإن تلك القوانين لا يمكن صياغتها إلا
بالاحتكام إلى التجريب. ونفس الشيء نجده مع هانز رايشنباخ الذي يرفض أن
يكون العقل هو المصدر الوحيد في بناء المعرفة العلمية، بل للواقع التجريبي دور مهم
في بناء هذه المعرفة، وعندما نحصر مصدرها في العقل دون الرجوع إلى الواقع
التجريبي، تصبح تلك المعرفة ذات طابع فلسفي وليس علمي، لأن البناء العقلاني الرياضي
المتعالي عن الملاحظة والتجريب يكون أقرب إلى التصوف منه إلى العلم، ويقول رايشنباخ «عندما يتخلى العالم عن
الملاحظة التجريبية لا يعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة».
لكن بالرغم من الدور الذي لعبته التجربة في بناء المعرفة العلمية، إلا أن التطور الذي عرفه الواقع العلمي، أبان على محدودية المنهج التجريبي كذلك في تأسيس المعرفة العلمية، وبالتالي نجد غاستون باشلار يتجاوز رأي النزعتين التجريبية والعقلانية في بناء المعرفة العلمية، ويؤكد على أنها لا تبنى إلا انطلاقا من علاقة جدلية بين العقل والتجربة، حيث يمكن اعتبار العقلانية العلمية المعاصرة هي عقلانية مطبقة، بمعنى عقلانية محايثة للواقع التجريبي، وهذه العقلانية تتأسس على يقين مزدوج : اليقين بوجود الواقع في قبضة العقل الرياضي، واليقين بكون الحجج العقلية هي من صميم الواقع التجريبي.
ضرورة تحديد معيار للعلمية (التركيب)
وأخيرا، يتبين مما سبق أن قضية بناء المعرفة العلمية، تبقى إشكالا فلسفيا معقدا من الصعب الحسم فيه، وهو ما أثار نقاشا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين، نتج عنه اختلاف وتباين بين التصورات والمواقف حول الاساس الذي تبنى عليه هذه المعرفة، فمن هؤلاء من يرى بأن المعرفة العلمية تبنى على أساس واقعي تجريبي، لكن في المقابل منهم من يرى بأن العقل الرياضي يحمل المبادئ التي تمكنه من بناء هذه المعرفة في غنى تام عن التجربة، لكن هناك من يرى أن المعرفة تبنى انطلاقا من الحوار بين العقل والواقع، وفي اعتقادي الشخصي أن النقاش حول الاساس الذي تبنى عليه النظريات العلمية هو نقاش عقيم ومتجاوز، فما دامت غاية العلم هو تفسير الظواهر، ومادامت النظريات تقوم بهذا الدور، فلا قيمة للتساؤل حول أسسها، لأن إثارة مثل هذه الإشكالات يضرب في مصداقية النظريات العلمية ومشروعيتها، طبعا هذا الاشكال قد أثار فينا فضولا لمعرفة أساس النظريات العلمية، والذي كانت الغاية منه هو تجاوز ذلك الصراع القائم بين الاتجاهين التجريبي والعقلاني، لكن معرفتنا بتعدد أسس النظريات العلمية، رافقه شك في مشروعيتها وعلميتها، وبالتالي من الضروري التمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي في هذه النظريات، إذن، ماهي القاعدة التي نميز من خلالها بين نظرية علمية وأخرى غير علمية؟.